تشبه رواية “مقبرة الصدأ” للكاتب المجري أندريه فيش (دار المدى ـ ترجمة نافع معلّا) استعراضاً لشريط زمني ينسحب أمامنا عبر الصفحات. إنها رواية تصوّر تأثّر حيوات الأفراد بالأوضاع العامة في بلد غير مستقر، وهي حيوات عادية، تافهة، تفنى في الأعمال، ويمكن أن تنتهي بأبسط الطرق وأقصرها، حتى قبل أن تبدأ. الزمن … هو المتغير الأساس في الرواية، تضعف الحبكة ويغيب الحدث المركزي وكذلك شخصية البطل بسبب الحدّ من الفرديّة وتأطير الأفراد في مؤسساتهم خلال أعمالهم وعطلاتهم، في ظل النظام الاشتراكي الذي حكم البلد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حتى انهيار الاتحاد السوفييتي مع محاولة فاشلة للثورة عليه عام 1956، تلك الفترة التي يسميها الكاتب المجري إيمري كيرتيس الفائز بجائزة نوبل عام 2002 في قصته “الراية الإنكليزية” سنوات الكارثة، وهي الفترة ذاتها التي دفعت مواطنته أغوتا كريستوف ذات الصوت الأدبي المميز للجوء إلى سويسرا. ثمة استعراض لكمٍّ كبيرٍ من الأحداث التي يذكرها الراوي، دون أن يتوغل فيها، يحدث الانتقال بينها دون عتبات أو عوائق، حتى أن الرواية مكتوبة كقطعة واحدة غير مقسمة إلى فصول. نتتبع مصير أفراد عائلة يانوش وجيرانهم وزملائهم في أعمالهم الذين يكبرون في العمر، نتعرف على نمط حياتهم المتغير بين جيل الآباء والأبناء حيث تتفكك البنية الاجتماعية والعائلية أكثر فأكثر، ونعاين أوضاع هنغاريا (المجر) المتعبة نتيجة تتالي الحروب الكبرى والنزاعات الداخلية التي هي امتداد وشكل آخر لصراعات الشرق والغرب داخل البلد الواقع على الأطراف الغربية لأوروبا الشرقية. خاض هابتلر يانوش الحرب العالمية الأولى في جيش الإمبراطورية النمساوية المجرية مقاتلاً ضد الإيطاليين، جُرِح أكثر من مرة وتقلّد أوسمة، لكنه وجد نفسه من جديد يخوض الحرب العالمية الثانية بعد نحو عشرين عاماً إلى جانب ابنه في صفوف الجيش النازي المحتل، لأنه عاد إلى صفوف الشرطة والجندية، بعد أن تنقّل مع زوجته بين الأماكن ملاحقين الأعمال المتنوعة صعبة النوال في فترة الأزمة الاقتصادية والكساد العظيم بين الحربين، فعمل معاوناً لضابطٍ أسقفٍ كان يحضر معه تنفيذ الإعدامات ومراسم الجنازات والأعراس، وحارساً في متحف، وعاملاً في عدد من المصانع… في نهاية الحرب الثانية انسحب الأب مع المنسحبين حتى درسدن، فيما وقع ابنه ياني في أسر الجيش الأحمر، قبل أن يُطلق سراحه ليعود ويعلم أن حبيبته كاتو رايش، اليهودية، أحرقها مع ابنته في “أوشفيتز” من قاتل إلى جانبهم. هناك أمرٌ آخر يميز الفترة الزمنية التي تغطيها الرواية، الممتدة أكثر من أربعين عاماً، وهو ضعف العناية الطبية وجهل الناس بأمورهم الصحية، فهانيلكا هي الثانية من بنات هذه العائلة التي تحمل نفس الاسم لأن الأولى ماتت بسن 8 أشهر، وثمة أخت ماتت بعد أعوام قليلة من ولادتها، ابن ياني كاد يموت، وابنة إستر ماتت منذ يومها الأول بسبب نزيف في جمجمتها لأنها سقطت من يد الطبيب أثناء ولادتها، حتى أن حالة الولادة السليمة تستحق الذكر كأنها الاستثناء، ورغم أن المستشفيات عامة ومجانية كان سائداً كعُرْفٍ أن يعطي ذوو المريض مالاً للأطباء والممرضين كي يولوا مريضهم عناية وسط الزحام. يتفرع خيط السرد ملاحقاً بنات العائلة الثلاث في المؤسسات التي يعملن فيها وخلال عطلاتهن والعلاقات الكثيرة التي يعقدنها، خاصة هانيلكا الجميلة المشتهاة، كثيرة الوقوع في الحب، ثم داخل بيوتهن الزوجية، قبل أن يعود معهن إلى بيت العائلة الصغير، ذلك أنهن ثلاثتهن تركن أزواجهن محتفظات بحق حضانة الأطفال. يشترك أفراد العائلة بكونهم عصبيين، ورثوا هذه الخصلة عن أمهم ماريا بيك التي تنطرح على الأرض عند أي خلاف من الخلافات الكثيرة وتنتف شعرها، حتى عندما حاولت الانتحار بعد خلافٍ مع ابنها ياني الذي يريد الرحيل مع زوجته وابنه عن بيت العائلة، تعامل الجميع مع الأمر بعد نجاتها منه كنزق آخر نسوه متابعين حياتهم، فيما يانوش الأب ينظر إلى ذلك كله ويظل يهدد بتحطيم البيت وكل ما فيه
مقبرة الصدأ
3.10 ر.ع.
كتاب مقبرة الصدأ للمؤلف اندريه فيش
متوفر في المخزون
الكود:
9782843091285
المؤلف:
اندريه فيش
الناشر:
دار المدي